القصور الملكية هي صانعة هيبة الملك»، هكذا يصرح أحد العارفين بخبايا ودهاليز حياة القصور في المملكة ل«المساء» قبل أن يستطرد قائلا: «إنها دولة أخرى داخل الدولة»، ويستدل المصدر نفسه على المقولة الأخيرة بحكاية من أيام حكم الحسن الثاني، بطلها أحد الخدام الأوفياء للعرش العلوي والذي عبر له الحسن الثاني في أحد المجالس الملكية عن المكانة التي يحظى بها لديه وعن كونه يفضله عن بقية خدم القصر وخاطبه قائلا بما مضومنه: «أنت عزيز عندي..»، بالطبع فرح خادم الأعتاب الشريفة، فأن يفضلك الملك من بين مئات الخدم هو أمر لا يحدث كل يوم، لكن الخادم كان أذكى من ذلك وطلب من الملك السماح له بالكلام، ولم يكن أحد ممن حضروا هذه المحادثة يتوقع جملة الخادم التالية: «إلا كنت عزيز عندك آسيدي استرني»، وهذه العبارة تحمل بين طياتها دهاء واحد من أبناء دار المخزن، الذي يعرف جيدا عوالم القصر الملكي لأنه «لو علم الباقون بأن ملك البلاد يفضل هذا الخادم عنهم..غادي يطحنوه»، يوضح نفس المصدر.
إنها قصة من بين قصص أخرى ظلت ولزمن طويل حبيسة البلاط الملكي، أكدها مصدر آخر مستغربا «كيف عرفت بهذا الأمر؟»، ويفسر سؤاله بكون مثل هذه الأشياء «لا تغادر جدران القصور الملكية»، ويضيف قوله: «للقصور في المغرب عاداتها وتقاليدها ونظامها الخاص..إنها مملكة أخرى»، وهذا الكلام يشبه كثيرا عبارة المصدر الأول «إنها دولة داخل الدولة»، لكن المصدر الثاني، وهو أيضا من العارفين بقضايا دار المخزن، يؤكد أن «ما تداولته الصحافة وإلى اليوم ليس إلا فتات الأخبار التي طفت على السطح مع قضية السرقات»، ويختم بما يشبه كلام العارفين: «كل أعراف البلاط لازالت مستمرة بدون استثناء، عكس ما يمكن أن تعتقده، ويمكن أن أقول إنها صارت حاضرة بكل ثقلها في الثلاث سنوات الأخيرة».
«كل شيء عاد كما كان داخل القصور الملكية»، هذا ما يريد قوله هذا المصدر، لكن الملك محمد السادس سبق أن أعرب، في أحد حواراته مع صحيفة «باري ماتش» عن كونه لا يحب الحياة داخل القصور، ولا يريد لابنه وولي عهده مولاي الحسن أن يعيش معتقلا داخل أسوارها العتيقة، لذلك فهو يفضل العيش داخل إقامات ملكية. فما الذي يميز هذه الإقامات عن القصور عدا الأسوار العتيقة التي تحصنها وثقل الزخرفة المعمارية، التي تلف الجدران والسواري والنقوش التي تحفر خشب البوابات الكبيرة، والخدم والحشم الذين تعج بهم أروقة القصور؟ وهل يحتاج الملك إلى أكثر من 15 قصرا ملكيا رسميا، وأكثر من ذلك بكثير من الإقامات الرسمية ليستحق حمل لقب ملك؟
القصور تطفو
«في الماضي كانت مشاكل القصر تحل داخل أروقة القصر وبعادات القصر»، هكذا قال أحد أبناء دار المخزن، والأمر صحيح إلى حد ما، فإلى وقت قريب كانت مشاكل خدام القصر ومشاكل القصر تدخل في دائرة أسرار الدولة المختومة بطابع «طي الكتمان»، قبل أن تطفو على سطح الأحداث المغربية المتداولة على صفحات بعض الجرائد الوطنية، خصوصا بعد السرقات التي عرفتها بعض القصور والإقامات الملكية في المغرب، الاختلاسات التي كشفت عن اختفاء مئات الكؤوس من عدة قصور ملكية، سعر الكأس الواحد منها يناهز ثلاثة آلاف درهم. وقبل ذلك، كان محافظ القصر الملكي بأكادير الكولونيل ماجور مصطفى الهيلالي قد اعتقل عقب توجيه التهمة إليه بسوء التدبير وتحويل ملايين الدراهم من أموال تسيير القصر لحسابه الخاص، وفي الدار البيضاء خضع المحافظ السابق للقصر مصطفى زربان لتحقيق له علاقة بسوء تسيير الإقامات الملكية، لتأتي فيما بعد الاختلاسات التي حصلت بالقصر الملكي بالرباط.
وفي 24 يناير الماضي، عرض على محكمة الاستئناف بسلا ثلاثة أشخاص من خدام دار المخزن، منهم من يشتغل داخل واحد من القصور الملكية، ومن يؤدي مهامه بإحدى الإقامات الملكية، كما تختلف أيضا المهام الموكلة إليهم ورتبهم، فواحد كان مسؤولاً عن الخدم، و كان آخر مكلفاً بالرسائل، وكان ثالث مكلفاً بالأمن، ويجمع بينهم رابط متين هو «التلاعب بالكريمات»، وكانت نهاية قضايا القصور هذه السنة هي تبرئة عبد العزيز إيزو، الذي كانت آخر مهمة رسمية منوطة به، قبل أن يتم استدعاؤه للتحقيق، هي مدير أمن القصور الملكية، والتهمة كما عرفها الناس كانت هذه المرة خارجة عن أسوار البلاط ومرتبطة بشبكة لترويج المخدرات.
«هذه كلها أشياء كانت موجودة في الماضي أيضا، لكنها لم تكن تظهر»، يوضح أحد المصادر، وهكذا بدأ الناس يعرفون أنه داخل القصور والإقامات الملكية، هناك لصوص يسقطون ضحايا لمعان الأوني الملكية الغالية، وصارت أخبار «فضائح البلاط» تتصدر الصفحات الأولى للجرائد: من يبيعون ويشترون في «الكريمات»، من يحتفظون بكؤوس «البلار» في منازلهم، ومن يتحول من مدير أمن القصور الملكية إلى مشتبه به في قضية مخدرات.
كل هذه التطورات، التي لم يكن يتصور أحد أن تقع في عهد الملك الراحل، أزاحت جزءا من الهالة التي كانت تحيط بهذه البنايات الملكية، وبدأ الناس يكتشفون أنه «في داخل القصور هناك أيضا أناس من لحم ودم وليست هناك أشباح تحرسها، كما ظلوا دائما يعتقدون»، كما يوضح أحد السوسيولوجيين، وفي الوقت الذي كان فيه «عبيد العافية»، كما يسمون داخل القصر، يتكلفون بمعاقبة من يقع في الخطأ والممنوع «إما بالسجن في أماكن مخصصة لهذا الغرض أو بالجلد أحيانا»، في صمت كامل وكتمان شديد لا يصل حتى إلى آذان سكان حي «تواركة»، أيام الحسن الثاني، صارت المحاكم اليوم تنشر غسيل القصور أمام الملأ.
قصور وقصور
كان قصر الصخيرات من أعز القصور على الملك الراحل الحسن الثاني، ورغم أن هذا القصر شهد أخطر حادثة كادت تودي بحياة الملك الراحل إبان المحاولة الانقلابية الأولى التي عرفها المغرب سنة 1971، فقد ظل من بين القصور المفضلة لديه. وبالرغم من أنه كان يعاني من الحساسية، وغالبا ما ينصحه أطباؤه بالسفر إلى مراكش، فإن الحسن الثاني كانت له علاقة حميمية بهذا القصر الذي شهد آخر عشاء رسمي له. وعلى إثر ذلك العشاء الذي أقيم في الهواء الطلق، أصيب الملك الراحل بنوبة برد انتقل على إثرها إلى المصحة الملكية بالقصر الملكي بالمشور السعيد.
لكن يبقى القصر الذي تحدثت عنه الصحافة بكثرة مباشرة بعد رحيل الحسن الثاني هو قصر أكادير، الذي يعتبر من بين آخر القصور التي شيدها الملك قبل رحيله إلى جانب قصر بوزنيقة، هذا الأخير الذي ظل الملك الراحل يتردد عليه باستمرار في أيامه الأخير، فيما ظل يقاطع قصر أكادير طوال فترة ملكه. وكانت أول وآخر مرة زار فيها الحسن الثاني قصر أكادير عام 1989 بمناسبة احتفالات عيد العرش. وسيتوقف الحسن الثاني بعد ذلك عن زيارة ذلك المكان، لتنطلق تأويلات أبناء المدينة التي ذهبت إلى وجود سكان من الجن يقطنون حجرات القصر، ونسجت الحكايات الشعبية أساطير حول عجز فقهاء سوس عن طرد مستوطني القصر من الجان.
حالة الغموض التي تحيط بحياة القصور تحولت على مر العقود الماضية، خاصة على عهد الملك الراحل، إلى «بنايات محرمة يحرسها الجن والإنس ولا يمكن لأي كان أن يدخلها، أو يفكر في اقتحام أبوابها»، يقول أحدهم، كما ظلت عملية تشييد القصور، وحياة البذخ داخلها، جزءا من شخصية الحاكم الذي أقام سلطانه على الهيبة والخوف. ولكنها أيضا كانت رمزا ملتصقا بجزء من تاريخ الحسن الثاني، حيث يذكر الكاتب الفرنسي «إغناس دال» في كتابه «الملوك الثلاثة» أحد تصريحات الملك الراحل التي تؤكد الملاحظة الأخيرة: «أظن أنني أول مغربي شرب الحليب من خلال رضاعة «biberon«، وأظن أنه منذ تلك اللحظة بدأت الأمور تتغير داخل القصر».
ورث الملك الحسن الثاني أربعة قصور صالحة للسكن عن والده محمد الخامس، قصر الدار البيضاء الذي أعيد ترميمه فيما بعد والقصر الملكي بالرباط الذي يعتبر بمثابة مركز الحكم في المغرب، إذ توجد بداخله قاعة العرش التي شهدت تنصيب الملك الراحل الحسن الثاني والملك الحالي محمد السادس، وبه يوجد ديوان الملك ،الذي من داخله يتم تسيير شؤون الحكم في المغرب، ثم قصر إيفران الذي تركه الاستعمار الفرنسي لسلطان المغرب، وفي الأخير هناك إقامة دار السلام بطريق زعير بالرباط، والتي كانت تسمى في الماضي قصر السلام.
في كتاب «الملوك الثلاثة» ل«إغناس دال» يخرج الكاتب، من خلال قراءته لمجموع حوارات الحسن الثاني، بخلاصة مفادها أن «الملك الراحل كان يحب حياة البذخ والرفاه ويفرض هيبته على الجميع عبرها»، والقصور التي شيدها الملك الراحل في آخر أيام حياته غذتها هذه النزعة إلى أن تكون السلطة مجسدة في الهيبة والفخامة. وأحد تلك القصور هو قصر أكادير، و«الذي تكلف ببنائه محمد المرنيسي، المقاول المقرب من القصر»، والذي رغم عظمته ظل فارغا إلى أن رحل الملك.
دولة القصر
لازال خدم وعبيد دار المخزن محاطين بالكثير من الأسرار، ويحكي أحد العارفين أن «هؤلاء يعيشون حياة أخرى لا يعرفها الناس ولا يعرف قوانينها وتقاليدها إلا من عاشها»، وربما هذا الأمر ما جعل المغاربة عبر التاريخ ينسجون حولها حكايات وأساطير، تتحدث عن كراسي الحمامات المطلية بالذهب، وعن فرق من الجان تحرس السلطان والملك والأمراء، وعن خاتم الحكمة الذي ظل الحسن الثاني يضعه في أحد أصابع يديه إلى أن رحل، والذي كان يحميه من العين والسحر، وعن ثريات من اللؤلؤ والمرجان، والموائد العامرة التي تجهز كل يوم في كل قصور المملكة لأن الملك قد ينزل بها في أي لحظة وبدون سابق إنذار.
كتب إغناس دال في كتاب الملوك الثلاثة أن «الحسن الثاني كان يحيط كل شيء حوله بهيبته»، وهو ما يفسر أن كل ما نسجه المخيال الشعبي حول حياة القصور كان مرتبطا في الأصل بشخصية الملك الراحل نفسه، الذي كان يعيش حياة أشبه بتلك التي عاشها سلاطين وملوك المماليك القديمة، حتى تحولت هذه البنايات الفخمة- التي تنتشر في المدن القديمة، ويناهز عدد ما هو معروف منها اليوم خمسة عشر قصرا ملكيا، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الإقامات الملكية المنتشرة بمختلف ربوع المملكة، باستثناء مدن الجنوب- إلى «أماكن مقدسة وسامية يهابها الجميع»، كما يقول أحدهم.
لكن ما يغذي أيضا المخيال الشعبي في علاقة بخصوصية القصر الملكي هو بعض مما كان يسربه بعض العاملين بالمشور السعيد إلى آذان «ولاد الشعب» عن «عبيد العافية» المكلفين بمعاقبة من يرتكبون الأخطاء وحتى الجرائم من أبناء دار المخزن في ما يشبه مؤسسة أخرى للقضاء اسمها «قضاء عبيد العافية»، فالملك الراحل لم يكن يسمح بخروج مشاكل القصر ونزاعاته وحتى جرائم خدمه إلى المحاكم، وذلك حفاظا على هيبة القصر وصورته في المخيلة الشعبية، ومن أجل ذلك كان «عبيد العافية» مكلفين بتأديب الخدم والحرس والوصيفات والجواري، وكان في قبو القصر «بنيقة» لسجن الخارجين عن قانون القصر وأوامر سيده.
وعند بعض محترفي كتابة التاريخ الرسمي وغير الرسمي، فإن هؤلاء يقولون إن «نظام وتقاليد وعادات القصور الملكية هي موروثة في جزء كبير منها» وتعود إلى قرون خلت منذ أيام ما كان يعرف ب«قصور السلاطين» التي كان يوجد فيها أيضا ما يسمى بعبيد المخزن إبان الدولة الموحدية، التي عرف بها «عبيد جفارة»، وفي عهد الفاطميين كان هناك «عبيد الشراء». وحتى تنظيم العبيد داخل القصر فهو لم يأت اليوم، فمنذ القديم كان العبيد والخدم ينتظمون في القصر الملكي حسب تراتبية خاصة ضمن فرق، وهذا الأمر مازال مستمرا إلى اليوم، وعلى رأس كل فرقة هناك قائد، وتسمى فرق الخدم والعبيد في عرف دار المخزن ب«حناطي المخازنية».
وهكذا، ظلت الحياة داخل القصر مصدر خيال وإلهام وإعجاب ونقمة في نفس الوقت، كل حسب موقعه وأحوال معيشته. فالقصور الملكية والحياة داخلها لم تكن دائما شأنا ملكيا، ولا مقرا للإقامة والعمل فقط، «بل كانت أداة وأدوات للحكم» امتزج فيها التقليدي العريق بالطابع الحديث، وكل ذلك داخل بناء سلطوي يركز الهيبة والقوة والغنى... حتى ولو كان البلد فقيرا ومدينا ويعيش أزمة، كما حدث مع قصر أكادير الذي تم تشييده وبناؤه في فترة كان فيها المغرب يخضع لسياسة التقويم الهيكلي. وكما يؤكد أغلب من التقتهم «المساء»، فإن الملك الراحل الحسن الثاني كان يشرف بنفسه على أدق التفاصيل، في المطبخ كما في المسبح مرورا بقاعات الاستقبال وألوان الستائر وأشكال النقش والنافورات والرخام.
العودة إلى الأصل
يؤكد بعض من مازال مسموحا لهم بدخول البيوت الملكية، من قصور وإقامات، أن هذه الأخيرة «بدأت، في السنوات الثلاث الأخيرة، تستعيد كل العادات القديمة في التنظيم والتدبير الداخلي». وتضيف هذه المصادر أنه «مؤخرا، عاد كل شيء كما كان وبقوة»، دون أن تقدم هذ المصادر أية معالم حول هذه العادات التي عادت، والتي اختفت في وقت سابق، أو كما يوضح أحد المطلعين: «تلك العادات التي كان الملك الشاب يحاول التخلص منها مع مجيئه إلى الملك قبل ثماني سنوات»، لكن بعض التصريحات تقول «إن كل شيء عاد إلى السرية داخل القصور بسبب كل ما تسرب إلى الصحافة وإلى المحاكم، الأمر الذي لم يكن ليحدث في الماضي».
ورغم ما سبق أن صرح به الملك محمد السادس في أحد حواراته مع «باري ماتش» من كونه «لا يحب الحياة داخل القصور»، فإن «الحرس القديم عاد إلى مهامه والعادات القديمة لازالت مترسخة»، كما يوضح أحد العارفين، الذي يستطرد قائلا إن «تسيير القصور يحتاج لوحده إلى نظام خاص»، ويضيف أن الملك لازال فعلا يفضل الإقامات الملكية»، التي لا يعرف أحد عددها بالضبط، كما لا تعرف أماكن مواقعها، إذ تبقى في الغالب طي الكتمان والسرية، وأشهر هذه الإقامات المعروفة إقامة الملك محمد السادس عندما كان وليا للعهد، والإقامة الجديدة التي بناها الملك الحالي بعد ولادة ولي العهد بطريق زعير بالرباط، بالإضافة إلى إقامات خاصة في الدار البيضاء ومراكش وطنحة.
يفسر مصدر مطلع ل«المساء» التحولات الحالية داخل القصور الملكية، ب«عودة خدام العهد القديم بقوة إلى دواليب تدبير القصور رغم تغييب الحاجب الملكي السابق وتمرير مهامه إلى منير الماجدي». في المقابل، فإن هذا المصدر يؤكد أن «الحفاظ على الهدوء الداخلي بالبنايات الملكية لا يمكن تحقيقه إلا بمنطق الحسن الثاني».